Oct 25, 2007

Dr. Zeinab AbdElaziz of Egypt_ Article 11

تأملات فى المسألة الكاريكاتورية المسيحية ..


بقلم :الدكتورة زينب عبدالعزيز

أستاذة الحضارة الفرنسية



المتأمل فى قضية المسألة الكاريكاتورية ، بموضوعية بعيدة عن الإنفعالات العاطفية او المستفَزّة، لابد وأن يصاب بشىء من الهلع لكثرة وتداخل الأحداث والحقائق المكونة لها ، و التى يجب ان تراعى فى نطاقها العام، حتى لا تنتهى هذه القضية، تحديدا،ً مثلها مثل العديد غيرها من القضايا، وخاصة الدينية منها ، الى عالم الكتمان و النسيان.. لذلك سنحاول تحديد معالم هذه الأحداث والحقائق إجماليا لعله يمكن التوصل الى بعض الخطوط المؤدية الى النور أو إلى حلول حاسمة.

وتنقسم هذه الأحداث والحقائق الى عدة مجالات يمكن تصنيفها مبدئيا كالآتى :

* موضوعات متعلقة بنا كمسلمين – أيا كانت جنسياتنا ومواقع بلداننا.

* موضوعات متعلقة بالغرب المسيحى .

* حقائق لابد من أخذها دائما فى الإعتبار حتى لا تتوه معالم الرؤية.

وكلها أحداث وحقائق أدى تداخلها وتجاهلها او التعتيم عليها إلى ما نحن فيه من مساس بديننا وكرامتنا، وإلى ذلك الإنفعال الجارف أو الأهوج أحياناً، سواء فى الساحة المحلية أو العالمية ، وما أدينه هنا أولاً هواللجوء إلى الحرائق والتدمير الذى يفقدنا حقنا ، بدلا من اللجوء إلى الوسائل الفعالة كاستمرار المقاطعة وعدم التهاون فيها ، واستخدام القانون، وأول هذه القوانين: قانون جيسو الفرنسى Gayssot )) الذى صيغ فى فرنسا سنة 1990 والذى يرمى إلى " قمع كل التصرفات العنصرية، والمعادية للسامية ، وكراهية الأجانب". وهو القانون الذى تمت محاكمة روجيه جارودى بمقتضاة بزعم أنه مس بكرامة عدد قتلى المحرقة ! فلماذا لا نستعين بنفس هذا القانون ؟! وما يندرج تحته فى مسألة هذه الرسومات هو أنها تصرفات عنصرية أساساً وناجمة عن كراهية الأجانب بصورة واضحة ( وهم هنا المسلمون الذين يعيشون فى الغرب و يتمسكون بدينهم) !



وننتقل إلى الأحداث والحقائق ، لنبدأ بما يتعلق بنا كمسلمين ، بما أن القضية برمتها تتعلق بالإسلام أولا وأخيراً :

وأهم ما يأتى على رأس القائمة هو موقف الأزهر بكل مؤسساته ، و ذلك الكمّ المخزى من التنازلات التى نذكر منها ، على سبيل المثال لا الحصر ، ما قام به المسؤلون فيه من باب الجهل ، أو مراضاة للغرب ، أو تفاديا لما يطلقون عليه ظلما أو جبناً : " تفادى الفتنة الطائفية" ! وأقول ظلما او جبناً لأن المسيحيين فى مصر ، بكل طوائفهم، ليسوا أغبياء أو عاجزين عن الفهم و التفكير، وحين تعرض الحقائق بكاملها وبلا مواربة يتخذون المواقف السليمة سواء أكانت وطنية أو غيرها، وعليهم أن يعرفوا ما يحاك لنا لأنهم ، فى هذه القضية تحديدا ، مستهدفون مثلنا فى مسألة إقتلاع الدين ، والباكى على دينه عليه أن يفهم الوقائع والحقائق ليعى ما نحن فيه..

والأزهر، الذى يمثل فى مصر والعالم الإسلامى على إتساعه ، أكبر و أعرق رمز للإسلام ، والرمز أعلى وأسمى من أى مسمّى أو عبارة سلطوية ، الأزهر ، بكل أسف ومرارة ، كان أول من فرّط فى حق الإسلام و فى حق نبيه عليه الصلاة والسلام، وذلك بقبوله إلغاء مادة الدين من التعليم كمادة أساسية للنجاح والسقوط ، وقبوله " تعديل" المناهج الدينية وتغيير الآيات فى المناهج الدراسية بدلا من شرح وتفسير أسباب نزولها ، وإسناد المعاهد الأزهرية إلى التربية والتعليم أو تحويلها إلى مرافق أخرى، و " تعديل " الخطاب الدينى ، وإغلاق المساجد بين الصلوات ، وتضييق نطاق بناء المساجد ، و تحويل ما لم تُقم فيه الشعائر بعد إلى مرافق أخرى، بل وإزالة ما تم بنائه قبل إستخراج تصاريح البناء، وهنا لا يسعنى إلا أن أسأل: هل يمكن لنفس هؤلاء المسؤلين والوزراء القيام بنفس التصرف حيال الكنائس؟ فما اكثر ما تم بناؤه بلا تراخيص ، بل ما أكثر الأراضى التى أُخذت بوضع اليد ولم يتحرك أحد.. بل لقد خرج العاملين بالأزهر عن تعاليم دينهم ووصايا الرسول عليه الصلاة والسلام بالتهاون فى مسألة الحجاب فى فرنسا ، وبتسليم وفاء قسطنطين بدلا من حمايتها، كما غضوا الطرف عن الدفاع عن الإسلام وعن نبيه الكريم فى مهزلة مسرحية كنيسة الإسكندرية ، بإحالتها إلى عالم الصمت والنسيان ببضعة عبارات مرتعدة جوفاء، والصمت حينما أهانت السلطات القمعية الأمريكية المصحف الشريف فى جوانتنامو وغيرها .. والأدهى من هذا وذاك ، وغيره جد كثيربكل أسف، هو التوقيع على إتفاقية بين الأزهر والفاتيكان والكنيسة الأنجليكانية بالموافقة على أن يقوم المبشرون بالتبشير فى مصر دون أن يتعرض لهم أى شخص !؟.. قسما بالله أرتجف خجلا وحزناً ومهانةً وأنا أكتب هذه الحقائق وكلها منشورة فى الصحف المحلية والغربية!



ولا أقول شيئا عن غياب دور "علماء" المسلمين وعدم القيام بواجبهم الأساس أو جزء منه، وهو تعريف الغرب المسيحى بالإسلام والدفاع عن حقوق الأقليات المسلمة ، ومناقشة الخلافات الأساسية الحقيقية بين المسيحية والإسلام وتوضيحها للكافة ، هنا وهناك، مسلمون ومسيحيون ، فما أكبر جهل الإثنين بحقائق دينهم وتاريخه ، وهذه الخلافات التى يجهلها الكثيرون هنا وهناك هى السبب الأساس فى كل هذه المشاحنات والضغائن المكتومة والتى تشرئب من حين لأخر، بدلا من ترك الساحة للتعصب الفاتيكانى ورجاله الذين لا شرعية لوجودهم إلا الحفاظ على ما قاموا به من تحريف على مر العصور وفرضه على الأتباع والإصرار على فرضه على الديانات الأخرى وخاصة المسلمين ، أو تركها لوقاحة السياسة الأمريكية وعربدتها وأتباعها الغربيين ، بل وبدلا من التنطيط بين الفضائيات والقنوات الأرضية والبرامج الإذاعية والمؤتمرات واللقاءات التنازلية النزعة والدعْوات المظهرية والإنسياق فى لعبة البذخ والمظاهر على حساب الدين..



وفى نفس هذه السلسلة الممجوجة من التنازلات ، صدرت نفس هذه الأوامر الخاصة بتجفيف الإسلام من المنبع ، إلى كل البلدان الإسلامية . كما صدرت إلى مجمع الملك فهد بتقليل طباعة المصاحف إلى النصف سنويا ، وبذلك سيأتى اليوم بعد بضعة سنوات و لا نجد فى متناول اليد سوى "الفرقان الحق" – تلك البدعة المهينة التى ابتدعتها الأيادى العابثة فى الإدارة الأمريكية وتقوم بتوزيعها على بلدان العالم الإسلامى والعربى..ولا أقول شيئا عن الفضائيات والبرامج التى تسب الإسلام ونبيه الكريم ولا نرد أو نشرح الحقائق بل ولا يسمح بذلك إلا على إستحياء .



وهكذا أصبحنا نحقق مطلب القس زويمر ، كبير المستشرقين والمبشرين ، حين قال فى مطلع القرن العشرين :" لن يقتلع الإسلام إلا أيادى مسلمة من الداخل " .. وياللعار!



ولا يسع المجال هنا لسرد قائمة التنازلات السياسية التى قامت بها الدول الإسلامية والعربية، واول ما أبدأ به هو: ما كشف عنه العدوان الغاشم على العراق من تضامن كافة الأنظمة ، بكل أسف ، مع الإدارة الأمريكية وخضوعها لكافة مطالبها الظالمة. وهو ما يُطلق عليه بلغة السياسة الكاشفة : مواقف خائنة. وما أكثر القضايا التى تندرج تحت هذا البند ، ومنها عمليات التطبيع الكاذبة و الصمت المخزى حيال مأساة فلسطين ومسلمى البوسنة وإحتلال أفغانستان والعراق والتحرش السافر بسوريا ولبنان، والصمت على كل ما تتعرض له هذه الشعوب من مختلف أنواع القهر والإبادة والتطهير العرقىوالقتل العشوائى اليومى ، عن غير وجه حق وبلا سبب إلا لأنهم مسلمون ولأن الغرب المسيحى طامع فى الثروات وفى تنفيذ أطماعه وبرامجه.



وحين يقبل المرء على نفسه موقف الخيانة وموقف التنازلات والتواطؤ مع المعتدى ، من أجل مزيد من المكاسب الشخصية او من أجل الحفاظ على الكراسى ، يصبح الشكل غريبا مستَغرَبا حين ينفعل غاضبا أو حتى حين يعترض ، ولو شكلا.. وذلك هو ما يأخذه علينا الغرب المستغرِب إنفعالنا ، فهم يعرفون مواقف الحكام ، ويعرفون انه لا يسمح لهذه الشعوب بالإحتجاج وعمل المظاهرات إلا إن كانت بالإتفاق والترتيب ! وذلك هو ما يبدو واضحا على الأقل فى الصحافة الفرنسية ومجلاتها. فأكثر ما تناقلته هذه الجرائد سؤال واحد: كيف يمكن لهذه البلدان التى تكمم وتعتقل الإخوان المسلمين ، وتقتلهم سراً وعلناً، ولا تسمح لهم بتكوين حزب سياسى ، أن تثور لبضعة رسوم ساخرة بعد كل هذه التنازلات ؟!







وهنا ننتقل إلى بعض أهم الموضوعات المتعلقة بالغرب المسيحى ، وأولها التشدق بحق حرية التعبير. وكل الذين يتشدقون بهذه الحجة غير صادقين مداهنين ويهينون شرف المهنة والكلمة، فلا توجد دولة واحدة فى العالم يمكن أن يقال عنها انها تتمتع بحرية صحافة مطلقة ، كما يتشدق الغربيون ، فحرية التعبير لديهم ، بكل ثقة ، محددة بالقانون وبالأعراف الإجتماعية. وأول هذه الدول ذلك الغرب المتعجرف برمته فرنسا وسياستها ذات الوجهين.



فلو كان هؤلاء الذين يتشدقون بحرية التعبير صادقين ليتجرأ واحداً منهم و ينتقد العربدة الصهيونية وما تعمله بكل الأعراف والقوانين ، وضربها عرض الحائط بكل ما يصدر ضدها من الأحكام ، ليتجرأ واحداً منهم ويتحدث عن جدار العار وكل المحن الطاحنة القاتلة التى يفرضها على الفلسطينيين ، ليتجرأ واحداً منهم وينتقد التحيّز الأعمى لحيازة الصهاينة ترسانة من الأسلحة الذرية ، وبذلك : فهُم الذين يمثلون فعلا تهديداً لكل المنطقة فى الشرق الأوسط ، وليست البلدان العربية المنزوعة السلاح والإرادة!. ليتجرأ واحداً منهم وينتقد تعامل حكامه بمكيالين فى جميع القضايا المتعلقة بالصهاينة ، أو الإسلام والمسلمين وعمليات القتل اليومية التى يتعرضون لها، أو مواقفهم من القضايا الحيوية بالنسبة للعالم الثالث الذى اختلقوه واعتصروه و يتقاسمون جيفته بكل جبروت.. ليتجرأ واحداً منهم وينتقد التنازلات التى قدمها البابا بنديكت السادس عشر لليهود فى أول خطاب رسمى له ، وهى لا تقل فداحة أو تناقضا – وفقا للنصوص – من تبرأتهم من دم المسيح ، ومع ذلك لم يجروء أحدهم على الإنتقاد ، فمن غير المعقول أن يصمت كل الذين يتشدقون بالعلمانية أو بالإلحاد ويتربصون أى مناسبة يسهبون فيها بانتقاداتهم ، ليتجرأ واحداً منهم وينتقد قداس يوم الاحد الماضى الذى تناول فيه البابا الآية التى تتحدث عن يسوع وإخوته فى انجيل متّى! فعندما أشار إليها الأستاذ أنيس منصور قامت الكنيسة هنا وثارت ،لأنها تمس بالألوهية المزعومة للمسيح عليه الصلاة والسلام وقد أصبحت الآن فى الغرب من المعلومات العامة بين العلماء والباحثين ، لكن حينما يتناولها البابا بالشرح والتعليق تنازلا لليهود ، يسود الصمت!



تلك هى حقيقة حرية الرأى وحرية الصحافة وحرية التعبير التى يتغنون بها فى الغرب المسيحى المتعجرف لتبرير عنصريتهم الفاضحة. فهى حرية خاضعة للأوامر، وخاضعة للمطلوب ، وخاضعة للأقوى ! بل هى حرية قد تم توظيفها للتمهيد لما هو أبعد وأكبر مما يبدو على هذا السطح الكاريكاتورى – أيا كانت مرارته وآلامه.



أما النقطة الثانية التى يجب توضيحها فهى : موقف الغرب من المسيحية ومن الدين بعامة. فلقد كفر الغرب المسيحى بدينه منذ بداية عصر التنوير ، الذى قام كرد فعل لقرابة الف عام من الظلمات والجهل والقمع فرضتها الكنيسة بإصرار، بحروبها الصليبية و بمحاكم التفتيش وذبحت بواسطتها 68 مليون نسمة ، و منعت خلالها الأتباع من قراءة الكتاب المقدس والإكتفاء بما تقوله لهم حتى ترصّخت كل التعاليم التى نسجوها.. وما أن بدأ العلم ينتشر ، وكان حكرا على القساوسة ، حتى بدأوا فى مراجعة النصوص والترجمات ومضاهاة التوارخ ، فبدأت المعارك بين الكنيسة والعلم..



وهى معارك لم تتوقف ولم تنتهى وفى تصعيد متواصل حتى اليوم ، معارك أثبت خلالها العلماء والباحثون أن الأناجيل بشكلها الحالى قد صيغت فى القرن الرابع الميلادى، وأن القديس جيروم هو الذى دمج ووفّق بين قرابة خمسين إنجيلا كانت متداولة ، وأن المسيحية الحالية قد نُسِجت عبر المجامع على مر العصور ، فما من عقيدة واحدة مما فرضتها واردة بالأناجيل، وتواريخ صياغتها ثابتة موجودة فى قرارات المجامع وكلها منشورة وليست سرية. بل ان الأبحاث تدور منذ عدة عقود حول البحث عن يسوع التاريخى، وأنهم يفصلون بين يسوع الإنسان و مسيح الأسطورة ، المنقول عن الأساطير السائدة آنذاك سواء فى مصر الفرعونية أو فى روما او فى منطقة بين النهرين، فهم يرون أن المسيح كما تقدمه الكنيسة لا سند تاريخى له ، و كلها أبحاث تعتمد على الوثائق التاريخية الموثقة وعلى الترجمات الأمينة للنصوص.



لذلك اهتز إيمان الغرب المسيحى و ابتعد الناس عن الدين ، خاصة فى فرنسا منبع عصر التنوير، وكثير منهم كنسيين ، آثروا الإلحاد ، بل آثر العديد منهم اتهام الكنيسة وكشف ما قامت به على مر التاريخ بدلا من الصمت. أما عامة الشعب فهم فى كل مكان ، كما يصفهم روبرت فانك (Robert Funk )رئيس" ندوة عيسى " ( التى انعقدت فى الولايات المتحدة الأمريكية وحضرها حوالى مائتى عالم وباحث فى اللاهوت ، وأقروا بأن 82 % من الكلام المسند لعيسى عليه الصلاة والسلام لم يتفوه به) فيقول أن : " عامة الشعب غارقون فى جهل يصل إلى درجة الأمية ، فكثير منهم لا يعرف عدد الأناجيل المعتمدة ، بل ولا يعرف الأسماء التى هى معروفة بها" . وكلها حقائق يجب أن تناقش بموضوعية ويعرفها الجميع وألا يتم التعتيم عليها ، بدلا من الإتهامات الجوفاء والتحريض الخفى وغيرها، وكلها تؤدى إلى إنفعالات مشحونة هوجاء لا طائل منها.



أما موقف الغرب من الإسلام فهو واحد لم يتغيّر ، منذ أن تأكد الكنسيون أنه ليس بهرطقة من الهرطقات الدينية التى يتعيّن عليهم إقتلاعها حفاظا على ما ينسجون، وما أكثر ما اقتلعوا ، وإنما رسالة كاشفة لكل ما قاموا به من تحريف و تزوير فى النصوص والعقيدة. ومن اللافت للنظر أن كل ما قاله العلماء فى الغرب المسيحى منذ عصر التنوير حتى يومنا هذا، فى اتهاماتهم للأيادى العابثة فى الكنيسة ، سبقهم إليه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرنا ، بما أوحى إليه به فى القرآن الكريم : فكل الذى يدينه القرآن هو بدعة التأليه، وبدعة التثليث ، والشرك بالله عز و جل ، وتحريف النص وتبديله. وكل ما يطلبه الله سبحانه وتعالى أن تحكم كل أمة بما أنزل إليها – وليس بما ثبت تحريفه وتزويره. فلا إكراه فى الدين ، والإسلام لا يعرف نظام المبشرين ولا محاكم التفتيش ولا الإصرار على فرض الدين : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. والحساب يوم الحساب.



وخلاصة كل هذه الحروب والمعارك ، فى نهاية المطاف ، هو المحاولات المستميتة من الجانب الكنسي للحفاظ على كيانه، الذى تم نسجه باختلاق العقائد واقتلاع الآخر، أمام وضوح رسالة الإسلام وبساطته. وخاصة الدفاع عن كيانه أمام الأتباع. وذلك هو ما يقوله العلماء فى الغرب وخشيتهم من رد فعل المسيحيين فى العالم عندما يعلمون الحقائق التى توصلوا إليها وتكشف زيف هذا الكيان.



لذلك لا يكف التعصب الكنسى عن محاربة الإسلام كما لايكف عن سبّ نبيه الكريم بأقبح ما يمكن تصوره من الألفاظ والصفات ، والرسومات التى نشرتها الجريدة الدنمركية ليست بذات بال بل ولا تقارن بالنسبة لما سبق وقالوه عن الرسول صلوات الله عليه ، وكلها موجودة منشورة فى الكتب الغربية القديمة والحديثة سواء الأعمال الأدبية أو الدينية التبشيرية أو المدرسية، بل منها رسومات فى بعض كنائس إيطاليا مأخوذة عن أجزاء من "جحيم " دانتى تصور سيدنا رسول الله بما لا يمكن لإنسان أن يصفه من إهانة جارحة. . ولا أحد يتكلم خشية الفتنة المزعومة !



إن حقيقة ما تكشف عنه فعلا هذه الرسومات المغرضة هو : جهل فاضح بالإسلام ، ومحاولة حمقاء لمواصلة ربطه بالإرهاب، فذلك هو مضمون هذه الرسومات ، وتعمّد مفضوح لإزلال وإهانة الأقليات المسلمة التى تعيش فى ذلك الغرب المتعصب و التى تعامل فيه كمواطن من الدرجة الثانية إن لم يكن من الدرجة الثالثة أحياناً ، والذين مطلوب منهم أن يذوبوا عمداً وقهراً فى الثقافة الغربية أو يُقتلعوا! – فما أكثر ما كُتب فى هذا المضمار. ويستمر الصمت من جانب أهل الإختصاص ..



وإن لم تكن كل هذه الحقائق لها وجودها ولها وزنها فى الخلفية الدينية للغرب ، فلماذا لم يتصدى هؤلاء الرسامين للديانة المسيطرة فى بلدهم ، والمتحكمة فى اليمين المتطرف ، إن كانت المسألة مسألة حرية تعبير ؟ لماذا لم ينتقدوا الدستور الدنمركى الذى ينص على : "أن الكنيسة اللوثرية هى كنيسة الشعب الدنمركى وأن الدولة تساندها " ، إن كانت المسألة فعلا حرية نقد وحرية تعبير وان الدين لا يعنيهم ؟! بل لماذا لم يسخروا من العائلة المالكة التى تساند هذا اليمين المتطرف إن كانت المسألة حرية الرأى والتعبير ؟!



إن وسائل الإعلام الغربى بتضامنها مع الإعلام الدنمركى ومحاولتها جاهدة الزج والربط بين "العالم العربى الإسلامى والإرهاب " ، تكشف عن عنصرية إجتماعية وسياسية وثقافية لا حد لها – بل تكشف عن جهل وأكاذيب تدينها وتحسب عليها وعلى تعصبها ، لأن أكبر ستة بلدان إسلامية فى العالم أو بلدان بها أكبر تعداد من المسلمين ، هى : أندونيسيا وباكستان وبنجلادش ونيجيريا وتركيا وإيران ، و جميعها ليست عرب، فلماذا التركيز على العالم "الإسلامى العربى" إن لم تكن هناك خبايا أخرى غير معلنة فى هذه الحملة المفتعلة التى شنتها الجريدة على سيدنا رسول الله و وصموه فيها بالإرهاب؟!



وما أسرع ما هرع الغرب ليساندها ليقود حرب دينية جديدة ، سبق له أن استخدم فيها سلاح الصور ، فما أكثر الصور والرسومات التى استعانت بها القوى الإستعمارية الأوروبية فى الحروب التى خاضتها فى استعمارها لأمريكا ، فى القرن السادس عشر، واقتلاعها للسكان الأصليين، وما اكثر استخدامها للصور والرسومات فى حرب الجزائر وفى فلسطين ، فى القرن العشرين. إن الصورة والكلمة تمثلان سلاحا من أقوى الأسلحة للثقافة الغربية المسيحية، منذ أن خرجت الكنيسة عن تعاليم دينها فى الوصايا العشر، فى مجمع نيقية الثانى ، سنة 787 ، الذىأباح استخدام الرسومات والتصوير الزيتى والنقوش الجدارية لنشر المسيحية ، إذ كانوا يعتبرونها "إنجيل الأميين" .. والقارىء لتاريخ معركة الأيقونات فى القرن الثامن يصاب بالغثيان مما استخدمت فيه هذه الفنون لفرض مسيحية روما !



ومما لا شك فيه أن الصور والكلمات هى أسلحة أيديولوجية عادة ما تستبق المعارك وتواكبها. ومما لا شك فيه أيضا أن هذه الرسومات الكاريكاتورية التى حصروا مضمونها المهين أساساً بالمسلمين العرب ، فى الخطاب الغربى المتعصب ، تخفى وراءها " قذارة حربية ما" فى منطقة الشرق الأوسط . فمن ناحية ، تحاول السياسة الأمريكية إقحام أوروبا مكانها ، بجعل قوات حلف الأطلنطى ( ومعظمهم أوروبيون ) يأخذون مكانها فى أفغانستان ، وذلك توطأة للزج بها مكانها أيضا عند بداية انسحابها من العراق ، كما زجوا بها فى قضية فلسطين ومساندة إحتلالها ، بل والزج بها فى المعارك المختلفة التى سيقودها التحالف الأمريكى-الصهيونى فى المنطقة ، حتى يتفادى اتهام "التفرد" بالسيادة والعربدة ، أو حتى لا يكون بمفرده هو الوجه القبيح الذى يسود العالم ، وإنما يجر العالم المسيحى برمته فى ركابه، فى حرب كاسحة ضد الإسلام والمسلمين.



فقد بدأ موقف السياسة الفرنسية ، ومعها السياسة الأوروبية ، التى كانت تتسم بنوع من الحياد الشكلى ، إلى الميل الواضح الفاضح للسير فى ركاب التحالف الأمريكى الصهيونى ولملة الفتات الذى يتساقط أو تقاسم ما يمكن إقتسامه..



وعلى الرغم من أن ما يعدّون له العدة حاليا، بخلاف السيطرة على منابع البترول وغيرها من الثروات الطبيعية ، هو هدم المسجد الأقصى لبناء المعبد المزعوم ، فإن نفس هذا التصور سيضع اليهود الصهاينة والمسيحيين بفرقهم المتعددة فى مواجهة جد ساحقة. إذ لكل من الفريقين تصوره لما بعد تجمّع اليهود و إقامة المعبد : المسيحيون ينتظرون مجىء المسيح ليحكم العالم ألف عام ، على ان يكون العالم قد تم تنصيره ؛ والصهاينة ينتظرون إقامة مدينة "القدس السماوية الذهبية" ليحكموا هم العالم على أنهم شعب الله المختار! وبالطبع على ان تكون اليهودية هى السائدة ! وفى كلا الحالتين التخلص من الإسلام والمسلمين مطلب مشترك بين الفريقين ، لأن الإسلام أتى كاشفا لما قاما به من تحريف وتزوير فى رسالة التوحيد .



والطريف فى الموضوع أن كلا الفريقين يعلم يقينا بفارق الرؤية الشاسع لكل منهما ، إلا أن التعصب الأكمه للإثنين ، يحجب عنهما حقيقة ما سيكون عليه الوضع عند المواجهة وقد تخلصا من المسلمين أو على الأقل من أغلبيتهم.. ويا لغرابة أطماع البشر والكفن لا جيوب له ! والأكثر غرابة من هذا وذاك ، ان كلا من الفريقين يعلم يقينا أنه يعتمد على نصوص قام كهّان كل فريق منهما بصياغتها ولا تمت إلى التنزيل الإلهى الأصلى بصلة.



فالأصول اليهودية قد إحترقت مع المعبد فى القرن الخامس قبل الميلاد ، وقام الراهب عزرا بكتابتها من الذاكرة فى القرن الأول قبل الميلاد ، وتواصل استكمال صياغة العهد القديم اليهودى حتى القرن العاشر الميلادى. و العهد القديم اليهودى يختلف عن المسيحى ، واليهود لا يعترفون بالعهد القديم الذى صاغه المسيحيون ، إعتمادا على الترجمة السبعينية ، المكتوبة باليونانية. أما النصوص المسيحية فقد صيغت بداية العديد منها فى أواخر القرن الثانى الميلادى ، وقام القديس جيروم بضمها فى شكلها الحالى بأمر من البابا داماز فى أواخر القرن الرابع الميلادى . فكيف يمكن لكل فريق منهما أن يتغافل هذه الحقائق التاريخية، الثابتة علميا اليوم، بل والتى أصبحت من المعلومات العامة لكل من يتناول هذه المجالات بالدراسة، فكيف ينساقون فى إندفاع أهوج لتدمير العالم سعيا لتحقيق نبؤات مزعومة ؟!







وتبقى بعض الحقائق والإقتراحات أو النقاط التى لا بد من أخذها فى الإعتبار أو تذكرها ، رغم تنوع مجالاتها ، حتى لا تتوه الرؤية ، وحتى يمكن إتخاذ الخطوات الفعّالة :



* قرار تنصير العالم الذى إتخذه مجمع الفاتيكان الثانى سنة 1965 وفرض تنفيذه على الكنسيين وكافة المدنيين المسيحيين بل وحتى على الأطفال الذين كوّن لهم فرقا تبشيرية اسمها "الأطفال المبشرون".



* إسناد مجلس الكنائس العالمى فى يناير 2001 مهمة تنفيذ إقتلاع الشر (الذى هو الإسلام فى نظرهم) فى هذا العقد 2001 – 2010 ،وبناء عليه تم إختلاق مسرحية 11 سبتمبر 2001 للتلفع بشرعية دولية لتبرير عمليات الإحتلال و التدمير العشوائى ، فالنداء الحربى كان : دكّوهم حتى العصرالحجرى !



* تواكب العمليات العسكرية والإحتلال مع عمليات التبشير.



* الغرب الذى نشأ على الأكاذيب الدينية وعلى مبدأ إقتلاع الآخر، على مر التاريخ ، لا يجد غضاضة فيما يفعله أو يكرر فعله ، ولا بد من مواجهته بالحقائق فى كافة المستويات وتوصيل هذه الحقائق للشعوب بكل شجاعة وموضوعية فنحن أصحاب حق ونحن المعتدى علينا بكل المقاييس.



* لا بد من العمل على تحريم وتجريم عمليات التبشير بالقانون فى جميع بلدان العالم الإسلامى وطرح الحقائق على الشعوب ، ومناقشة هذه القضايا بموضوعية علمية لتوضيحها وحسمها، وحتى لا تقع فى شراكها.



* لا يكف الفاتيكان وخاصة البابا الجديد عن ترديد : أن مسيح الفاتيكان وحده هو الحقيقة ، وأية حقيقة أخرى ليست سوى جزئية ضئيلة من الحقيقة ، والجميع عليهم الخضوع لذلك ، ويندرج هنا بالطبع كل ما هو غير كاتوليكى من كنائس وكل الديانات الأخرى فى العالم.



* ان الغرب المسيحى ، على الأقل الجهات الرسمية فيه ، يهب دفاعا عن أى شىء يمس اليهود من قريب أو بعيد ، ويتواطأ او يغض الطرف عن كل ما يسىء الى الإسلام والمسلمين.



* لايجب التراخى فى سلاح المقاطعة بل يجب تعميمه والعمل على إضراب عمال الموانىء والمطارات والإمتناع عن تفريغ بضائع المعتدين.



* مطالبة الغرب المسيحى والمتحكمين فيه بحلول حاسمة عادلة لكل القضايا ، والتعامل معه على مستوى الندية ، فنحن أصحاب حق و فى مقدورنا الحصول على حقوقنا لو لم نتخاذل مثلما حدث أيام منع البترول عن الغرب المعتدى.



* ضرورة إيجاد جسور تعاون مع الأمناء المخلصين فى ذلك الغرب المسيحي ، فلا شك فى أنهم ليسوا جميعا معتدون ، و بينهم العديد من المعترضين على هذا العدوان بأنواعه.







مقالات سابقة



تنازلات على نغمة المحبة !.. 27-01-2006



الدينى و السياسى فى التعامل الغربى مع القرآن 13-01-2006



المسيحية والألف الثالثة

إلى المواطن المصرى الدكتور/ الأنبا يوحنا قلتا .. 30-12-2005

No comments: